فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومقصودهم الرد على س وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها، وقالوا: إنها حرف دائمًا بمنزلة إلا لكنها تجر المستنثى، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله: حاشا قريشًا فإن الله فضلهم وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله وأم والله، نعم ردّ عليهم أيضًا بأنها تقه قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفًا أصلًا بل هي فعل دائمًا ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في:
حاشاي إني مسلم معذور

والبيت المار آنفًا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلًا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبًا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلا كما إذا كانت فعلًا خلافًا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفًا للتنزيه، وتمام الكلام في محله: {للَّهِ مَا هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا: {إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} أي شري كثير المحاسن بناءًا على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب:
فلست لأنسي ولكن لملأك ** تنزل من جو السماء يصوب

وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب، ومنه قوله:
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة ** حسنًا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن، ويعلم مما قرر أن الآية لا تقوم دليلًا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي وأتباعه، وأيده الفخر ولا فخر له بما أيده، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمى به على أكم لوجه، وافتتحوا ذلك بحاشا لله على ما هو الشائع في مثل ذلك، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدأوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يميمه فيكون آكد وأبلغ، والمنصور ما أشير إليه أولًا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} [يوسف: 51] و: {مَا} عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطقل النفي بناءًا على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي والمستقبل، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدًا على النصب في أشعارهم غير قوله:
وأنا النذير بحرة مسودة ** تصل الجيوش إليكم قوادها

أبناؤها متكنفون أباهم ** حنقوا الصدور وما هم أولادها

والزمخشري يسمى هذه اللغة: اللغة القدمى الحجازية، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع، وعلى هذا جاء قوله:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ** فأجاب ما قتل المحب حرام

وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا، وقرى الحسن وأبو الحويرث الحنفي {ما هذا بشرى} بالباء الجارة، وكسر الشين على أن شرى كما قال صاحب اللوائح مصدر أقيم مقام المفعول به أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشتري بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضًا إلا أنه روى عنه أنه مع ذلك كسرى اللام من ملك، وروى الكسرى ابن عطية عن الحسن وأبي الحويرث أيضًا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضًا: {مُلْكُ} بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشتري لئيم، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ}
العزيز: الأمير، مأخوذ من (العز) وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية.
{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي: خرق حبه شغاف قلبها، حتى وصل إلى الفؤاد، و (الشغاف) كسحاب: حجاب القلب.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في خطأ عن طريق الرشد والصواب. وإقحام الرؤية؛ للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}
أي: اغتيابهن، وسوء قالتهن. استعير (المكر) لـ (الغيبة) لشبهها له في الإخفاء أو (المكر) على حقيقته، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف.
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أي: تدعوهن للضيافة مكرًا بهن: {وَأَعْتَدَتْ} أي: أحضرت وهيأت: {لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي: ما يتكئن عليه من الوسائد: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا} أي: ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها: {وَقَالَتِ} أي: ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي: ابرز إليهن.
قال الزمخشري: قصدت بتلك- الهيئة- وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن؛ أن يدهشن ويُبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها؛ لأن المتكئ إذا بُهت لشيء وقعت يده على يده، فتبكنهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: أعظمنه، وهبن حسنه الفائق: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي: جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} حاش: أصله حاشا، وحذفت ألفه تخفيفًا، وبها قرأ أبو عَمْرو في الدرج، أي: تنزيهًا له سبحانه عن صفات النقص والعجز، وتعجبًا من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع. وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية على نهج القصر؛ بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}
النسوة: اسم جمع امرأة لا مفرد له، وهو اسم جمع قِلة مثله نساء.
وتقدم في قوله تعالى: {ونساءَنا ونساءَكم} في سورة آل عمران (61).
وقوله: {في المدينة} صفة لنسوة.
والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة.
وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة (مَنْفِيسْ) حيث كان قصر العزيز، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز.
وقيل: إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن (ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره).
وهذا الذي يقتضيه قوله: {وأعْتَدت لهن متكئًا} [سورة يوسف: 31] وقوله: {ولئن لم يفعل} [سورة يوسف: 32].
والفتى: الذي في سنّ الشباب، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا.
وإضافته إلى ضمير {امرأة العزيز} لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه.
وشَغَف: فعل مشتق من اسم جامد، وهو الشِغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب.
وهذا الفعل مثل كَبَدهُ ورآهُ وجَبَهه، إذا أصاب كَبده ورئته وجَبهته.
والضمير المستتر في: {شغفها} ل: {فتاها}.
ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله: {حبّا}.
وأصله شغفها حبه، أي أصاب حبه شغافها، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب، كناية عن التمكن.
وتذكير الفعل في: {وقال نسوة} لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالِم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل: {وجاءت سيارة} [سورة يوسف: 19].
وأما الهاء التي في آخر نسوة فليست علامة تأنيث بل هي هاء فِعلة جمع تكسير، مثل صبية وغلمة.
وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف عليه السّلام باسم العزيز عند قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} [سورة يوسف: 21].
وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية.
ومجيء {تراود} بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها.
ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [سورة هود: 74].
وجملة {قد شغفها حبًا} في موضع التعليل لجملة: {تراود فتاها}.
وجملة: {إنا لنراها في ضلال مبين} استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها.
والتأكيد بـ (إنّ) واللام لتحقيق اعتقادهِن ذلك، وإبعادًا لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى.
والضلال هنا: مخالفة طريق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى، وليس المراد الضلال الديني.
وهذا كقوله تعالى آنفًا: {إن أبانا لفي ضلال مبين} [سورة يوسف: 8].
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}
حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخْبِرت، كقول المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي تخبر عنه.
وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [سورة المائدة: 6].
وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل: لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريَها بعَرضها يوسف عليه السّلام عليهن فيريْنَ جماله لأنهن أحببن أن يرينه.
وقيل: لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يُضمرن حسَدَها على اقتناء مثله، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر.
{وأعتدت}: أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما تقدم عند قوله تعالى: {وأعتدنا للكافرين عذابًا مُهينًا} في سورة النساء (37).
والمتّكأ: محل الاتكاء. والاتكاء: جِلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصب الأعلى.
وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتّكِئْن عليها لتناول طعام.
وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادةً للرومان، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار.
وقال النبي: أمّا أنَا فلا آكلُ متكئًا.
ومعنى: {آتت} أمرت خدمها بالإيتاء كقوله: {يا هامان ابن لي صرحًا} [سورة غافر: 36].
والسكين: آلة قطع اللحم وغيره.
قيل: أحضرت لهن أتْرُجًا ومَوْزًا فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازًا.
وأعطت كل واحدة سكينًا لقشر الثمار.
وقولها: {أُخرج عليهن} يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها.
وعدّي فعل الخروج بحرف (على) لأنه ضمن معنى (أُدخل) لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه.
ومعنى: {أكبرنه} أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعدّ، أي أعددنه كبيرًا، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهًا لِوفرة الصفات بعظم الذات.
وتقطيع أيديهن كان من الذهول، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه.
وأريد بالقطع الجُرح، أطلق عليه القطع مجازًا للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطْع قطعة من لحم اليد.
و{حاش لله} تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه.
وأصل: {حاشا} فعل يدل على المباعدة عن شيء، ثم يعامل معاملة الحرف فيجَرُّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة.
وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال: حَاشَا الله، أي أحاشيه عن أن يكذب، كما يقال: لا أقسم.
وقد تزاد فيه لام الجر فيقال: حاشا لله وحاش لله، بحذف الألف، أي حاشا لأجله، أي لخوفه أن أكذب.
حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى.
وقرأ أبو عَمرو {حاشا لله} بإثبات ألف حاشا في الوصل، وقرأ البقية بحذفها فيه.
واتفقوا على الحذف في حالة الوقف.
وقولهن: {مَا هذا بشرًا} مبالغة في فَوْته محاسن البشر، فمعناه التفضيل في محاسن البشر، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه.
ثم شبّهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيهًا بليغًا مؤكّدًا.
وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء، ويجعلون لها صورًا، ولعلهم كانوا يتوخّوْن أن تكون ذواتًا حسنة.
ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء.
فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمّى الملك في اللغة العربية تقريبًا لأفهام السامعين.
فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل، كقول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال

. اهـ.